"صمت المنظمات الدولية".. غياب الصوت الحقوقي في حروب الشرق الأوسط الجديدة
"صمت المنظمات الدولية".. غياب الصوت الحقوقي في حروب الشرق الأوسط الجديدة
في الوقت الذي اشتعل فيه فتيل المواجهة بين إسرائيل وإيران، وامتد لهيب الحرب إلى غزة وجنوب لبنان وسوريا، خَفَت صوت المنظمات الحقوقية الدولية، التي طالما عُرفت بدورها في توثيق الانتهاكات والمطالبة بالمحاسبة الدولية للجناة.
ورغم تصاعد أعداد الضحايا المدنيين وتفاقم الوضع الإنساني في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط، اكتفت المنظمات الحقوقية الكبرى بالبيانات المقتضبة أو العامة، والتي لا تحمل في كثير من الأحيان توصيفًا دقيقًا لما يحدث على الأرض أو تحديدًا صريحًا للطرف المنتهِك.
وانتقد خبراء ومراقبون، في تصريحات منفصلة لـ"جسور بوست"، ما أسموه بـ"التخاذل"، مؤكدين أن الصمت لا يُعد حيادًا بل تواطؤًا غير مباشر، يُضعف من هيبة القانون الدولي، ويُعطي الضوء الأخضر لمزيد من الانتهاكات التي توصف بجرائم الحرب والجرائم غير الإنسانية.
خرق القانون الدولي الإنساني
في غزة، قتل المئات منذ بداية التصعيد، وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن النسبة الكبرى من الضحايا هم من الأطفال والنساء، في ظل استخدام مكثف للقوة العسكرية ضد مناطق مكتظة بالسكان. كما أُبلغ عن قصف منشآت طبية، ومخيمات للنازحين.
وفي جنوب لبنان، وثّقت مؤسسات مثل المركز اللبناني لحقوق الإنسان ومؤسسة "سمير قصير" حالات استهداف مباشر لمدنيين، بالإضافة إلى استخدام الذخائر العنقودية المحرمة دوليا.
أما في سوريا، فقد أدى القصف المتبادل بين القوات الإيرانية والإسرائيلية إلى سقوط قتلى وجرحى في مناطق مدنية بدمشق وحلب، دون أن تفتح الأمم المتحدة تحقيقًا مستقلًا حتى الآن.
تطورات متسارعة للنزاعات
وفي ظل هذه التطورات المتسارعة للنزاعات والحروب، بدت منظمة الأمم المتحدة، رغم بيانات أمينها العام أنطونيو غوتيريش، عاجزة عن إحداث أي اختراق حقيقي في ملف حماية المدنيين، إذ لم تمنع بيانات "القلق البالغ" و"الدعوة لضبط النفس" استمرار سقوط القذائف فوق رؤوس الأبرياء.
وبحسب دراسة صادرة عن معهد "كارنيغي" للسلام الدولي، فإن تغطية المنظمات الدولية لانتهاكات طرف واحد في النزاعات الشرق أوسطية، أدت إلى تقويض ثقة الشعوب في هذه المؤسسات.
ورغم وجود اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) في عدد من مناطق النزاع، فإنها تلتزم غالبًا بسياسة "الحياد الصامت"، مكتفية بتوزيع مساعدات غذائية أو طبية في بعض المناطق، دون تبني أي موقف علني من الانتهاكات الممنهجة.
وفي مقابل الغياب الدولي، برزت أصوات من منظمات محلية مثل المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (Euro-Med Monitor)، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين، ومركز الدفاع عن الحريات (حريات)، والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM)، وجمعية "الحق" الفلسطينية.
وتبذل المنظمات الحقوقية المحلية جهودًا حثيثة لتوثيق الجرائم وجمع الأدلة، لكنها غالبًا ما يتم تهميش تقاريرها ولا تجد صدى في المؤسسات الإعلامية الكبرى أو لدى الجهات الدولية، إذ يسود المشهد العام غياب الأمل في كشف الانتهاكات لتحقيق عدالة عاجلة، لا سيما في ظل غياب أصوات يفترض أنها تعبر عن ضمير العالم.
ازدواجية الصوت الحقوقي
وتكشف تقارير استقصائية منشورة في "The Intercept" و"Middle East Eye" أن بعض المنظمات الحقوقية الكبرى تتلقى جزءًا من تمويلها من حكومات أو كيانات غربية، ما قد يؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على توجهاتها أو أولوياتها.
واستشهدت هذه التقارير بأن برنامج التمويل الأوروبي لدعم تقارير "رصد النزاعات" لا يشمل تحقيقات متعلقة بإسرائيل، كما تدعم مؤسسة National Endowment for Democracy (مقرها في واشنطن) المنظمات المحلية في المنطقة، لكنها تضع قيودًا على نقد سياسات الولايات المتحدة.
وخلصت إلى أن المجازر التي تحدث في غزة، أو الهجمات على المدنيين في جنوب لبنان، لا تحظى بردود أفعال مماثلة لتلك التي شهدناها بعد غزو أوكرانيا رغم أن الانتهاكات لا تقل فداحة.
وتشير ازدواجية المعايير في مجال حقوق الإنسان إلى تطبيق مبادئ وقواعد حقوق الإنسان بشكل غير متساوٍ، حيث يتم تطبيقها بشكل صارم على بعض الدول والمجتمعات، بينما يتم التغاضي عنها أو التسامح معها في حالات أخرى، غالبًا ما تكون مرتبطة بمصالح سياسية أو اقتصادية.
وطالب حقوقيون عرب ومنظمات مستقلة، بينها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، بتدويل ملف التحقيقات في صراعات الشرق الأوسط، عبر آليات تابعة لمحكمة الجنايات الدولية، بعيدا عن تقارير المنظمات التي بات يُنظر لها على أنها "خاضعة للضغوط السياسية".
وبحسب المراقبين، فإن غياب العدالة المتوازنة، واستمرار ازدواجية التعاطي مع حقوق الإنسان، يكرس واقعًا خطيرًا في الشرق الأوسط، حيث باتت الشعوب تشكك ليس فقط في نوايا حكوماتها، بل أيضًا في مصداقية المنظمات التي يفترض أنها "محايدة".
هشاشة المنظومة الدولية
قال الدكتور محمود الحنفي، مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان "شاهد" في لبنان، إن غياب الصوت الحقوقي العالمي عن صراعات وحروب الشرق الأوسط الجديدة، برز بشكل صارخ لا يحتمل التأويل، مؤكدًا أن المنظمات الحقوقية الدولية –سواء الأممية منها أو غير الحكومية – لم تمارس تأثيرًا حقيقيًا وفعالًا في مواجهة الصراعات الدموية التي شهدتها المنطقة، وفي مقدمتها حرب الإبادة في قطاع غزة.
وأضاف الحنفي، في تصريح لـ"جسور بوست": "العلامة الفارقة كانت في غزة، حيث ظهرت مؤشرات واضحة على ترهل وهشاشة المنظومة الحقوقية الدولية، وعجزها عن الدفاع عن الحقوق الأساسية للسكان المدنيين".
وأوضح الحنفي أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، رغم أهميته كمظلة أممية، عجز عن عقد جلسات جدية لاتخاذ قرارات واضحة وحاسمة بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة، مشيرًا إلى أن المجلس لم يُشكّل لجنة تقصي حقائق، ولا لجنة تحقيق دولية، في ظل رفض إسرائيل لأي تدخل من هذا النوع، وهو ما أدى إلى "شلل عملي" في أدائه.
ومضى قائلا: "كنا نأمل أن تُحدث محكمة العدل الدولية فرقًا، بعد تحرك جنوب إفريقيا وصدور أوامر احترازية وتدابير عاجلة، لكن ما ظهر لاحقًا أن المحكمة –رغم مكانتها– تفتقر إلى آليات التنفيذ الفعّال، ما يجعل قراراتها أقرب إلى المواقف الرمزية منها إلى الإجراءات الملزمة".
وفي السياق، انتقد الحنفي أداء محكمة الجنايات الدولية، معتبرًا أن تأخرها في التعامل مع جرائم الحرب المرتكبة بحق الفلسطينيين "أمر مقلق للغاية"، وحتى بعد إصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين مثل بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، لم تقم أي دولة بتنفيذ التزاماتها باعتقالهم، ما يُبرز غياب الإرادة السياسية الحقيقية.
وعن المنظمات غير الحكومية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، أشار الحنفي إلى أنها رغم إصدارها تقارير مهمة وموثقة، يظل دورها محصورًا في التوثيق والمناصرة، دون امتلاك أدوات تنفيذية أو قدرة على إحداث تغيير ميداني ملموس.
وفي ما يخص الأمم المتحدة، انتقد الحنفي أداء مجلس الأمن الدولي، الذي فشل في إصدار قرارات ملزمة، في ظل عرقلة أمريكية متكررة خلال أربع جلسات متتالية، كما أشار إلى أن الجمعية العامة لم ترتقِ بمواقفها إلى مستوى الحدث، باستثناء قرارات رمزية من نوع "الاتحاد من أجل السلام".
وقال: "ما نواجهه اليوم هو أزمة عميقة في المنظومة الحقوقية الدولية، وسط غياب الإرادة السياسية للدول الكبرى، ما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى جدية هذه المنظومة، وهل ما زال بإمكاننا الوثوق بها؟".
واختتم الحنفي تصريحه، قائلا: "إذا استمر هذا العجز فإن ما جرى في غزة قد لا يكون الأسوأ، بل مجرد بداية لحروب أكثر دموية. نحن بحاجة ماسة إلى صوت حقوقي دولي حقيقي وفاعل، وإلى تفعيل الآليات التعاقدية والمؤسسات القضائية الدولية، حتى لا تنهار الثقة بالكامل ويصبح القانون الدولي مجرد ديكور سياسي".
سقوط القانون الدولي
قال الحقوقي نضال منصور، مدير مركز حماية وحرية الصحفيين بالأردن، إن المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية واجهت بعد 7 أكتوبر 2023، مع اندلاع الحرب الدامية على غزة، "أزمة حقيقية تظهر أن المعاهدات والاتفاقيات المرتبطة بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان قد فشلت في الاختبار".
وأوضح منصور، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "الدول التي كانت دائمًا تُظهر تمسكًا بمنظومة حقوق الإنسان والقانون الدولي، تخلت عنها تمامًا خلال الحرب الأخيرة، بل شاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في انتهاكها، سواء بالصمت أو بالدعم العسكري والسياسي للاعتداءات.. هذا الانكشاف أدى إلى اهتزاز ثقة الشارع العربي والعالمي في مصداقية هذه المنظومة".
وأضاف: "بات من الواضح أن حقوق الإنسان تُستخدم كأداة سياسية تخدم مصالح الدول الكبرى، فعندما تقع الانتهاكات في دول الجنوب أو في البلدان النامية، تتحرك المنظومة الحقوقية الدولية لملاحقة ومحاسبة الجناة، لكن عندما يكون الطرف المنتهِك دولة ذات نفوذ، فإنها تُحصن نفسها من أي محاسبة أو مساءلة، بل وتفلت من كل المعايير".
وأشار إلى أن "الأزمة الأخطر لم تقتصر على مواقف الدول، بل امتدت لتشمل بعض المنظمات الدولية التي أصبحت، للأسف، إما صامتة تجاه الانتهاكات، كما يحدث في غزة وفلسطين وسوريا والسودان، أو شريكة ضمنًا من خلال التغاضي المتكرر عن الجرائم الواضحة".
وأكد منصور أن هناك محاولات مكشوفة من بعض الجهات المانحة الدولية للتأثير على أداء مؤسسات المجتمع المدني في المنطقة، من خلال فرض شروط تمويل تُخالف المبادئ الأساسية لمنظومة حقوق الإنسان، قائلاً: "بعض الجهات الغربية تطلب من المنظمات المحلية التماهي مع سياساتها مقابل التمويل، حتى لو كان ذلك على حساب حقوق الإنسان التي تزعم الدفاع عنها".
وشدد على أهمية إعادة النظر في مصداقية المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، قائلا: "نحن أمام مرحلة حرجة تستدعي مراجعة جادة لبنية النظام الدولي الحقوقي، بدءًا من الأمم المتحدة، مرورًا بالمنظمات الأممية الكبرى، التي أظهرت عجزًا أو انحيازًا، في وقتٍ تتصاعد فيه الحروب والانتهاكات دون رادع أو عدالة".